فصل: (سورة الأنفال الآيات 74- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنفال آية 71]:

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ} نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم {فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل: المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء.

.[سورة الأنفال آية 72]:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}
الذين هاجروا: أي فارقوا أوطانهم وقومهم حبا للّه ورسوله: هم المهاجرون. والذين آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم: هم الأنصار {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي يتولى بعضهم بعضًا في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوى القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} وقرئ: {من ولايتهم}، بالفتح والكسر، أي من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمرًا ويباشر عملا {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين {إِلَّا عَلى قَوْمٍ} منهم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك.

.[سورة الأنفال آية 73]:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين: {أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا ثم قال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضًا حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار.
ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يدًا واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهرًا والفساد زائدًا. وقرئ {كثير} بالثاء.

.[سورة الأنفال الآيات 74- 75]:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
{أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ} ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا {وَأُولُوا الْأَرْحامِ} أولو القرابات أو أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة {فِي كِتابِ اللَّهِ} تعالى في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة رحمه اللّه على توريث ذوي الأرحام.
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
التفسير: هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرًا- فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب- فاستشار أبا بكر. فيهم فقال: قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، مكن عليًا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب له فلنضرب أعناقهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليليِّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] ومثلك يا عمر مثل نوح قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق» وروي إنه قال لهم: «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم». فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية.
وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهمًا.
وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله صل الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال: «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه» وروي أنه قال: «لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر. وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليّ».
واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه: الأول: {وما كان لنبي} صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل {قل لمن في أيديكم من الأسرى} الثاني: أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله: {فاضربوا فوق الأعناق} فكان الأسر معصية. وأجيب بأن قوله: {حتى يثخن} يدل على أن الأسر كان مشروعًا ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقًا عظيمًا فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله: {فاضربوا فوق الأعناق} تكليفًا مختصًا بحالة الحرب فلم يتناول الأسر بعد انهزام الكفار. الثالث: قالوا: الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله: {تريدون عرض الدنيا} أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر {والله يريد الآخرة} أي ثوابها أو ما هو سبب بالجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه. وقرئ بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل.
{والله عزيز} يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء بعد الأسر ولكنه {حكيم} لا يرخص في أخذ الفداء إلا بعد إفشاء القتل في الأعداء. والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله: {لولا كتاب من الله سبق} أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحدًا يخطئ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببًا في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد منهم مسلمين، وإن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم. قال ابن عباس: هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4] قال بعض العلماء: هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مختلف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لابد من تقديم الإثخان على الداء. وعن سعيد بن جبير {لولا كتاب من الله سبق} بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب. وقال محمد بن إسحاق {لولا كتاب من الله سبق} أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي. وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يشتركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى. وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدرًا. واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين.
والجواب أن عدم العقاب على الذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب. وقيل: لولا كتاب سبق بالعفو عن هذه الواقعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلًا. روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت: {فكلوا} والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا و{حلالًا} نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلًا حلالًا {واتقوا الله} فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به {إن الله غفور} لما فرط منكم من ترك الأولى {رحيم} فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أن يعلم الله} إن يظهر معلومه أن {في قلوبكم خيرًا} وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته {يؤتكم} في الدنيا {خيرًا مما أخذ منكم} من المنافع العاجلة {ويغفر لكم} في الآخرة، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب. ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيرًا لدلالة الآية على ذلك إجمالًا، وذلك الخير إن كان دينيًا فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر، وإن كان دنيويًا فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفًا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة. وقال ابن عباس: نزلت الآية في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث. وكان العباس أسر بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشر الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه النوبة حتى أسر فقال العباس. كنت مسلمًا إلا أنهم استكرهوني فقال صلى الله عليه وسلم: إن يكن ما تذكره حقًا فالله يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس: وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب عليّ فقال: أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا. قال: وكلفني الرسول صلى الله عليه وسلم فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن الحرث. فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشًا: فقال رسول الله عليه وسلم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي فإن حدث فيّ حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل.
فقال العباس: وما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي. قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابًا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرًا من ذلك لي الآن عشرون عبدًا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جمع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي. ثم قال: {وإن يريدوا خيانتك} أي نكث ما بايعوك عليه، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاضدة المشركين كما هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر. وقيل: المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء.
{فقد خانوا الله من قبل} في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه.
{فأمكن} أي المؤمنين {منهم} يوم بدر قتلًا وأسرًا فذاقوا وبال أمرهم فسيمكن المؤمنين منهم مرة أخرى إن أعادوا الخيانة {والله عليم} بأحوالهم: {حكيم} فيجازيهم على حسب أعمالهم.
واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل منها إلى المدينة، فمن المؤمنين من وافقه في الهجرة وهم المهاجرون الأولون، ومنهم من لم يوافقه في ذلك، ومنهم من هاجر بعد هجرته فذكر في خاتمة هذه السورة أحكام هذه الأصناف وأحوالهم مع ذكر أنصاره بالمدينة ومع ذكر الكفار أيضًا فقال: {إن الذين آمنوا} ويدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والانقياد لجميع التكاليف {وهاجروا} فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله: {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} أما المجاهدة بالأموال فلأنهم إذا فارقوا الديار ضاعت مساكنهم ومزارعهم وضيعاتهم وبقيت في أيدي الأعداء واحتاجوا إلى الإنفاق في تلك العزيمة والسفرة وفي الغزوات والمحاربات، وأما المجاهدة بالأنفس فيكفي في وصف ذلك أنهم أقدموا على قتال أهل بدر من غير آلة ولا عدّة والأعداء في غاية الكثرة ونهاية الشدّة، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وكانوا أول الناس إقدامًا على هذه الأفعال والتزامًا لهذه الخصال، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] وذلك أن غيرهم يقتدي بهم وتقوى دواعيهم بما يرون منهم، والمحن تخف على القلوب بالمشاركة، ولأن المهاجرين لهم سابقة في الإسلام ذكر الله تعالى الأنصار بعدهم فقال: {والذين آووا ونصروا} أي الذين أنزلوا المهاجرين بهم وجعلوا لهم مأوى أي نصروهم على أعدائهم {أولئك بعضهم أولياء بعض} أطبق جم غفير من المفسرين كابن عباس وغيره على أن المراد بهذه الولاية الإرث؛ كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون القرابة حتى نسخ ذلك بقوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} واستبعد الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله هذا التفسير لأنه يستلزم النسخ واستلزام النسخ محذور منه ما أمكن، ولأن لفظ الولاية يشعر بالقرب حيث يطلق دون الإرث كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له.